29
يناير
2018
كارثة بيئية تعكس أحد أوجه الفساد في كربلاء
نشر منذ Jan 29 18 pm31 08:19 PM - عدد المشاهدات : 279

تقرير:محمد حميد الصواف

 

صرخات مزقت سكون الليل الذي يخيم على منطقة الجاير، مصحوبة بعويل وبكاء تترجى النجدة، دفعت الأهالي ليهبوا على صداها، قبل ان يطلعوا على مصدرها أولا واسعاف مطلقها ثانيا.

وما هي الا لحظات، حتى شخص امام اعينهم رجل كهل يستنجد بهم وقد اعياه الصراخ، تفوح منه رائحة المياه الاسنة ولوث الوحل وجهه وملابسه بشكل كامل، الرجل الذي كان يرتجف من البرد كان يومئ للقادمين الى المبزل المحاذي للشارع الرئيسي، مرددا بصوت مبحوح أنقذوا زوجتي واطفالي من الموت.

كانت مركبة صغيرة قد استقرت وسط مياه المبزل ولا يظهر منها سوى عجلاتها التي لا يزال أحدها يدور حول نفسه دون توقف، فيما تظهر أيضا أجزاء من أبواب المركبة المغلقة.

ودون تردد بادر ثلاثة رجال الى القفز وسط المبزل ليخوضوا وسط النفايات والمياه الآسنة، أملا في انقاذ من كان داخل المركبة، تلك الدقائق التي لم تتجاوز العشرة عاشها الرجل الكهل كأنها دهرا، وقد جحضت عيناه قبل ان يتمكن المسعفون من اخراج زوجته وبنتيه اللاتي كن محتجزات داخل مركبته المقلوبة، بعد ان تمكن أحد المنقذين من فتح احدى الأبواب وانتشالهن.

كان من حسن حظ العائلة المنكوبة ان جميع نوافذ المركبة كانت مغلقة ولم يتسرب الى داخلها سوى القليل من المياه، الامر الذي أبقى المحتجزين احياء.

تلك الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، سوى انها كانت في وقت متأخر من الليل، فبحسب أهالي المنطقة ان غرق وانقلاب المركبات في المبزل بات ظاهرة مستمرة، سيما انه مكشوف ويحاذي الطريق بشكل منزلق.

"وجود المبزل اشبه بالكارثة بالنسبة للمارة والسكان على حد سواء، لا تمضي أيام حتى تغرق وسطه سيارة او دراجة أو طفل". يقول أحد السكان.

فيما يشكل المبزل الزراعي القديم الذي تحول بعد ازاحة البساتين واستبدالها بمساكن للفقراء الى مجرى لمياه الصرف الصحي قلقا متناميا لدى الأهالي، سيما ان استمرار وضعه بهذا الشكل انعكس على أكثر من صعيد بيئي وصحي وأمني على كل من يقطن او يعبر منطقة الجاير.

فبالإضافة الى ما أسفر عن وجوده وعدم وجود حواجز تحول دون حالات الغرق المتكررة التي تسبب بها، أصبح المبزل مصدرا للكثير من الامراض التي تصيب الأهالي، بعد انتشار العديد من الأوبئة.

فنتيجة لغياب الخدمات البلدية بشكل شبه تام، أمسى المبزل مكبا للنفايات اذ تغطي سطحه العلب والقناني البلاستيكية الفارغة وبقايا الازبال المتراكمة.

الرجل الكهل الذي تمكن الرجال من انقاذ عائلته كان أفضل حالا من الكثيرين الذين سبقوه، اذ قتل اثنين من الوافدين الاجانب وتحديدا من إيران لدى انقلاب مركبة ايضا في الليل، حيث لم تفلح الجهود الاهلية في انقاذهم بالوقت المناسب.

يقول ابو كوثر الحمداني وهو أحد سكنة المنطقة القدامى، "حوادث الموت غرقا في هذا المبزل بات حالة اعتاد على رويتها الاهالي". مبينا، "عشرات المركبات تعرضت للانزلاق والغرق في هذا المبزل المشؤوم فيما سجل موت طفلتين غرقا ايضا".

ويضيف وعلامات التذمر بادية، "احمد الله ان ابنتي لم تغرق موتا بعد ان سقطت في المبزل قبل سنوات".

ومنطقة الجاير.. احدى اهم المناطق في مركز مدينة كربلاء المقدسة لدى المسلمين الشيعة، وتتميز بكثافة مرتفعة في عدد السكان، اذ تستضيف المنطقة خلال الزيارات المليونية التي تشهدها مدينة كربلاء آلاف الزائرين من مختلف دول العالم خصوصا الزائرين الوافدين من إيران، كونها تقع في وسط المدينة المقدسة وتوفر المأوى للزائرين ايضا.

وسبق ان عرض عمدة بلدية طهران محمد باقر قليباف على محافظ كربلاء عقيل الطريحي إقامة مشاريع عملاقة دون دفع مسبق لتأهيل مركز المدينة الذي يعاني من تدهور المرافق الخدمية بشكل كبير.

ذلك العرض لم يلقى موافقة الطريحي على الرغم من كونه مميزا ومغيرا بشكل كبير، ويقطع دابر ذرائع الحكومة المحلية بعدم توفر الأموال اللازمة لإعادة تأهيل المدينة المهمة.

فضلا عن حوادث الغرق تسببت الروائح والغازات التي تطلقها النفايات المترسبة في مياه المبزل بالعديد من الاوبئة والامراض التي اصابت عددا كبيرا من السكان، سيما الاطفال وكبار السن.

يروي الاب محمد عباس الحسناوي معاناته مع مرض بناته الثلاث اللاتي اصيبن بأمراض جلدية معدية سببت للعائلة اجمعها مأساة حسب وصفه، فيقول، "بداية الامر اصيبت احدى بناتي بالطفح الجلدي الذي كان في حقيقة الامر مرض الجرب مما دفعني الى عزلها عن جميع افراد العائلة".

ويضيف، "بالرغم من كافة اشكال الوقاية الطبية والادوية التي استخدمتها لعلاج ابنتي الا ان العدوى اصابت شقيقاتها الاخريات". مبينا، "اصابنا الهلع والحزن الشديدين ونحن نرى معاناة بناتنا مع المرض من جهة والاضطراب النفسي الذي الم بهن بعد عن عزف جميع اطفال المنطقة عن اللهو معهن او الاقتراب منهن".

في الوقت ذاته ذكر الحاج خلف مرعي معاناته مع داء الربو الذي اصيب به ايضا نتيجة الغازات التي تطلقها مياه المبزل، والتي اصابت الكثيرين بأمراض في الجهاز التنفسي، لافتا، "اغلب السكان ابتلوا بأمراض ضيق النفس او الربو او التهاب القصبات الهوائية بسبب الغاز السام الصادر من المبزل".

وبنبرة لا تخلو من السخرية يتابع، "من نجى من الامراض الجلدية اصيب بأمراض الجهاز التنفسي". موضحا، "بات استخدام المراهم الطبية أمرا طبيعيا للسكان بعد ان اصيب الكثير منهم بالطفح والقروح ومشاكل الجلد المختلفة".

ولطالما طالب السكان الحكومة المحلية في كربلاء بضرورة انقاذهم مما يعانون، ونظموا العديد من الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات المنددة بإهمال الاجهزة البلدية منطقتهم، الا ان جميع تلك الفعاليات ذهبت ادراج الريح، "فلا مسؤول يهتم ولا محافظ يصغي" حسب قول علي الهنداوي الذين عزا خلال حديثه الى الروائح الكريهة الصادرة عن المبزل تعطل العديد من اجهزة التبريد في منازل السكان.

وبحسب المختصين فان انبعاث غاز كبريتيد الهيدروجين (H2SS) يتسبب بتآكل اجهزة التكييف وعطبها، الى جانب تأثيراته على الانسان التي قد تصل الى الاصابة بالأمراض السرطانية.

ويتهم اهالي المنطقة الحكومة المحلية بالفساد المطلق الذي انعكس بشكل جلي على حال منطقتهم المنكوبة، سيما بعد ان تم الاستيلاء على الاموال التي خصصت من قبل الحكومة الاتحادية لتغليف المبزل وردمه قبل عدة سنوات.

يقول محمد عبد الرسول، "مضت أربعة سنوات على احالة مشروع تغليف وردم المبزل الى احدى شركات المقاولات التي لم تباشر بعملها بسبب عدم وجود تخصيصات مالية".

ويضيف، "خصص مبلغ أحد عشر مليار دينار من قبل ما يسمى قسم تنمية الاقاليم التابع للحكومة المركزية ولكن تبددت المبالغ".

ويتساءل عبد الرسول، "اين ذهبت تلك الاموال"؟ ويكمل في تلميح أقرب للاتهام، "تجدون الاجابة لدى محافظ كربلاء".

هذا الاتهام لم تستبعده الحكومة المحلية في كربلاء، التي المحت بدورها وعلى لسان نائب المحافظ الى وجود شبهة فساد بين طرف حكومي ومقاول المشروع تقف وراءها اجندات سياسية.

فيقول علي الميالي نائب محافظ كربلاء، "مشروع تغليف مبزل الجاير المتعثر منذ سنوات هو أسوة بأربعة عشر مشروعا مهما آخر متعثر أيضا احيل الى نفس المقاول".

الميالي الذي كان يتحدث بمرارة بادية بين كلماته توعد برفع دعوى قضائية بحق المقاول لسحب المشروع منه على الرغم من عدم المباشرة بتنفيذه حسب قوله.

وكما يبدو ان الحكومة المحلية لم تعد قادرة على سحب المشروع من المقاول على الرغم من تلكأه في التنفيذ كون قانون حماية المستثمر الذي سن من قبل الكتل السياسية في البرلمان العراقي يمنع ذلك.

اذ يتكئ المقاول الذي احيل له مشروع تغليف مبزل الجاير والمشاريع الأخرى التي بحوزته، والتي تشكو التلكؤ أيضا وتخلو من أي نسب انجاز، على قانون مجلس الوزراء المرقم 347 للعام 2017، الذي ينص على وجوب التراضي لسحب أي مشروع من قبل الجهة المتعاقد معها لتنفيذه مهما كانت الأسباب.

هذا القرار الذي يتذرع به مقاول المشروع، تسبب أيضا بقطع الطريق على العتبة الحسينية التي استجابت لمناشدات الأهالي الراغبة بتولي كوادرها الهندسية تنفيذ المشروع، حيث تبددت مبادرتها بعد ان لوح المقاول برفع دعوى قضائية بحقها في حال استمرارها بالمشروع، الامر الذي دعاها الى الانسحاب، سيما ان المقاول سبق وان كسب دعوى قضائية لمشروع شبيه في كربلاء بادرت العتبة الحسينية الى اكماله بسبب تلكأه أيضا.

الا ان وبحسب المختصين في الشؤون القانونية فان الحكومة المحلية لديها القدرة على كسر قرار الا انها لا تحرك ساكنا لأسباب مجهولة، فيقول، "هذا القرار يكون غير نافذ المفعول عند قيام الحكومة المحلية في كربلاء برفع دعوى قضائية بحق المقاول".

الا ان المقاول كانت آخر همومه رفع دعوى قضائية من قبل الحكومة المحلية، التي كما أشار نائب المحافظ علي الميالي الى وجود صفقة سياسية فاسدة مع المقاول تحول دون التحرك ضده قانونيا، على الرغم من مرور سنوات التلكؤ الأربع وما أسفر عن ذلك من اضرار بيئية وصحية لدى الأهالي!

اذ سيبقى أهالي منطقة الجاير يكافحون تلك الاضرار ويجهدون في انقاذ أصحاب المركبات، الذي قد تقودهم حظوظهم السيئة الى المرور بالقرب من المبزل قبل ان يحلو فيه غرقا.

حقوق النشر محفوظة للكاتب

المصدر وكالة نون الخبرية


صور مرفقة






أخبار متعلقة
مشاركة الخبر
التعليق بالفيس بوك
التعليقات
استطلاع رأى

هل تتوقع أن تساهم التظاهرات بتحسين مستوى الخدمات

14 صوت - 67 %

0 صوت - 0 %

عدد الأصوات : 21

أخبار