6
مايو
2025
حين تختنق الثقافة تحت عباءة الأيديولوجيا.. من ينقذ العقل؟
نشر منذ 3 يوم - عدد المشاهدات : 70300



بقلم / مرفت محمد عبدالله

العالم يتغيّر كل لحظة، تتسارع التحولات الفكرية والتقنية والاجتماعية، وتظل مجتمعاتنا العربية والإسلامية رهينة لثنائية قاتلة.

أيديولوجيا تُغلّف الحقيقة وتروّجها كقدر لا بديل عنه، وثقافة تُناضل من أجل أن تتنفس.

الأيديولوجيا، بعمائها المعرفي، لا تسعى إلى الفهم، بل إلى السيطرة. إنها لا تكتفي بإنتاج الحقيقة بل تحتكرها، وتبني حولها جدرانًا من الشك والرفض تجاه كل مختلف.

أما الثقافة، فهي مساحة حرة للعقل، مرآة للتعدد، وفضاء للإنسان كي يرى نفسه في الآخر دون خوف أو تحفظ.

نحن لا نعاني من نقص في الشعارات أو في الأنظمة أو حتى في المعتقدات. ما نفتقده بعمق هو القدرة على إدارة الاختلاف، واحترامه كقيمة لا كتهديد.

لقد تم تجريف الثقافة لصالح أيديولوجية مغلقة لا تفرق بين النص والاجتهاد، بين المطلق والزائل، بين ما هو إلهي وما هو بشري.

وحين تصبح الفكرة قيدًا، ويتحوّل الإيمان إلى مشروع سياسي، تذبل الثقافة، وتتحول المجتمعات إلى ساحات تجاذب وعنف رمزي ومادي.

عندها تُقدَّم الحرية قرباناً على مذبح الحق المطلق، ويُصنّف الإنسان بين خائن ومؤمن، وطني وعميل، مؤمن وكافر، دون منطقة رمادية للعيش أو الحوار.

لقد أدركت دول كثيرة أن نهضتها لا تبدأ من قاعات السلطة، بل من فضاءات الفكر والإبداع. آسيا الناهضة، أوروبا ما بعد الحرب، وحتى بعض التجارب اللاتينية، جميعها أعادت الاعتبار للثقافة كقاطرة للتقدم.

أما نحن، فما زلنا نُعيد تدوير الماضي في قوالب خشبية، نخشى التحديث، ونرتاب من التفكير الحر.

لكن الأخطر من كل هذا، أن قبضة الأيديولوجيا امتدت إلى مدارسنا.

نعم، إلى تلك المساحات التي يُفترض أن تكون حضنًا للفكر، وموطناً للحوار، ومنارة للحرية.

في مؤسساتنا التربوية، تُغرس الطاعة قبل الفهم، ويُكافأ الحفظ على حساب التساؤل، ويُخشى من الطالب المفكر أكثر من الجاهل الصامت.

لقد تحولت الأنظمة التربوية إلى مصانع للعقول المنقادة، لا للعقول الناقدة.

وحين تهتز الأيديولوجيا التي تقوم عليها السلطة، ينهار معها كل شيء، لأن البنية التربوية لم تزرع الثقة بالنفس ولا القدرة على المبادرة.

المشكلة ليست في الدين، ولا في القيم، بل في تحويلهما إلى أدوات سياسية مغلّفة بخطاب مقدّس.

الخطورة الحقيقية حين تتحوّل الأيديولوجيا إلى بديل للوعي، وحين يصبح الانتماء جدارًا يعزل العقل عن الواقع.

نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية...

ثورة تنزع قداسة الزيف، وتُحرّر النصوص من التأويلات المغلقة، وتعيد للفكر دوره كوسيلة للفهم لا للتكفير.

نحتاج إلى أن نربّي أجيالاً تؤمن أن التفكير حق، وأن الاختلاف لا يُهدد الهويات بل يُثريها.

نحتاج إلى بيئة تعليمية تُقدّس العقل لا الشعار، وتؤسس نظامًا معرفيًا قائمًا على النقد والمراجعة، لا على الولاء والانتماء.

في ظل هذا الاختناق، تتراجع مشاريع التنمية، وتضيع الأولويات.

نُهدر ثرواتنا على صراعات فارغة، بينما التعليم ينهار، والبحث العلمي يُقمع، والمرأة تُقصى، والشباب يُدفع نحو الهجرة أو التطرف أو الانسحاب من الحياة العامة.

علينا أن نُعيد التفكير، ولا يقتصر في تشكيل الدولة، بل في جوهر الإنسان.

فلنبدأ من الطفل الذي نعلّمه، من المعلم الذي نؤهله، من المنهج الذي نكتبه...

فلنحرر المدرسة من الوصاية الأيديولوجية، ونمنحها دورها الأصيل في بناء الإنسان الواعي، لا المواطن المنقاد.

هل نريد بناء دول قادرة على الحياة، أم مجرد كيانات تعيد تدوير صراعاتها في دوامة لا تنتهي؟

لا طريق إلى الاستقرار والعدالة والتنمية إلا من خلال ثقافة وطنية شاملة، تحترم الإنسان كقيمة، لا كأداة.

يجب أن نعيد الاعتبار للمثقف الحقيقي، لا لمروّجي الشعارات، وأن نمنح المنابر للكتّاب والفنانين والعلماء والمعلمين، لا للواعظين الأيديولوجيين ومهندسي الكراهية.

فالمجتمعات التي تفتح نوافذها للثقافة، تغلق أبوابها أمام التطرف.

نحن اليوم أمام مفترق طرق...

إما أن نختار طريق التحرر الثقافي والنهضة العقلانية، أو نبقى أسرى ماضٍ يُستعاد بشكل مشوّه، ومشاريع حكم لا ترى في المواطن إلا رقماً في قوائم الولاء.

فلنبدأ من المدرسة، فهي ساحة المعركة الأولى، وهي أيضًا ساحة النصر.

في معركة المستقبل، لن تنتصر الشعارات ولا الأيديولوجيات، بل ستنتصر تلك المجتمعات التي اختارت أن تؤمن بالعقل، بالحوار، وبالإنسان.

والتاريخ لا يرحم المترددين.



صور مرفقة






أخبار متعلقة
مشاركة الخبر
التعليق بالفيس بوك
التعليقات
استطلاع رأى

هل تتوقع أن تساهم التظاهرات بتحسين مستوى الخدمات

14 صوت - 67 %

0 صوت - 0 %

عدد الأصوات : 21

أخبار